مذهل ومرعب هذا التشابه بين الحادثتين. مذهل من حيث تشابه أطراف اللعبة في الحالتين، ومرعب حيال احتمال تشابه مصير الحراكين.
ليس جديداً استباحة جيش الاحتلال الإسرائيلي للحجر والبشر في الضفة، وليس جديداً الكابوس المتجدد الذي يعيشه الفلسطينيون هناك بشكل يومي بمعية السلطة الفلسطينية. إلا أن الملفت للنظر تسارع الأحداث بهذه الصورة بعد حادثة اختطاف وقتل المستوطنين الثلاثة وتصاعد وتيرة الاعتقالات التي حصدت المئات في الأسابيع الثلاثة التالية للحادثة إضافة إلى استشهاد سبعة عشر فلسطينياً قبل اختطاف وقتل الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير (17 عاماً) وحرقه من قبل مستوطنين، الأمر الذي أدى إلى انفجار الوضع ونفاذ صبر الفلسطينيين وانطلاقهم إلى الشوارع فيما يمكن أن يمهد لانتفاضة ثالثة.
لعل الكثير من علامات الاستفهام تبرز حول الأحداث الأخيرة ابتداءً –ربّما- بالإعلان عن كسر الأسرى الإداريين إضرابهم عن الطعام قبيل استعار الحراك المتضامن معهم مع عدم ذكر أي تفاصيل كان من المفترض أن يقدّمها محاموهم ولم يفعلوا. وبالعودة لحادثة الخطف، يستمرّ اختفاء مروان القواسمي وعامر أبو عيشة المتهمين الأساسيين والذين فجر جيش الاحتلال منزليهما منذ أيام، إضافة إلى استمرار اللغط حول تجاهل أجهزة الشرطة الإسرائيلية بلاغ اختفاء المستوطنين الثلاثة، وغير ذلك من الأحداث المتزامنة التي قد تشير إلى بعض الروابط الناقصة بين تفاصيلها. إلا أنه، وبغض النظر عن كل ما سبق و عن كل نظريات المؤامرة التي تحفزها تلك الحوادث، فإنه لا يخفى مدى التشابه بين ظروف انطلاق الحالة الأخيرة من الحراك الفلسطيني (كنتيجة نهائية) ومكونات مشهده مع ما حصل سابقاً في آذار (مارس) عام 2011 في سوريا.
بإمكاننا عنونة المشهد العام في الحالتين بظلم مُعمّم وممارسات قمعية يمارسها نظام استبدادي مجرم ضد شعب محروم من أبسط حقوقه في العيش الكريم ويتخلله مكونات أربعة تتفاعل داخله على النحو الآتي:
– فئة حالها حال الأغلبية الساحقة من الشعب الذي يعاني بمجمله من الظلم والقهر، صادف أن تكون هي الضحية المباشرة لجريمة بشعة ارتكبت عمداً أو ضمن إطار الجور الذي أصبح قاعدة، فأدّت إلى نفاذ صبر الحاضن الاجتماعي لهذه الشريحة وانعكست ارتداداتها كالزلزال في أوساط أخرى في المجتمع.
– فئة انتفضت في وجه العدوان والظلم الممنهج لاسترداد كرامتها وحقوقها لكنها بقيت وحيدة في الساحة في سوريا وما زالت وحيدة في فلسطين حتى اليوم.
– في المقابل، فئة متواطئة مع المعتدي تمثلت في سوريا برجال الأعمال والمنتفعين المباشرين من استمرار النظام في سدة الحكم. أما في فلسطين فتكاد السلطة الفلسطينية تحتكر هذا الدور في الضفة و تساهم كل يوم في امتداد رقعة اعتداءات المحتل لتطال المزيد من أبناء شعبها. وفي أراضي الـ48، لم تُبدِ القوى السياسية العربية اهتماماً بالحراك بالقدر الذي تهتم بانتخابات رئاسة البلديات و المجالس المحلية للأسف. أما وإن أبدت تلك القوى السياسية أي تفاعل فإنه لم يغادر دائرة المزاودات على بعضها البعض.
– الفئة الأخيرة تشكل الغالبية العددية العظمى وهي غير مستعدة لتقديم أي تضحيات أو حتى مد يد العون لمن يسعون لاسترداد كرامتهم وكرامتها. أولئك انحصر دورهم بداية في سوريا وسينحصر في فلسطين كذلك في انتقاد الشريحة المتصدية الثائرة وادعاء أن الوقت مازال غير مناسب لأخذ الأمور في هذا المنحى، وأنه من العبث التخلي عن بعض أشكال “الترف” الذي نعيشه في سبيل مصير مجهول، ومن ثم تصل قمة ثورة هذه الشريحة إلى لعن “الطرفين” مساوين بين الجلاد والضحية ومتجاهلين حقيقة أن هناك طرفاً مقموعاً وطرفاً يمارس القمع. وأن طرفاً يقتُل والآخر يُقتَل.
لربما تتشابه كل أسباب الثورات حول العالم إلا أن قرب المثال السوري زمنياً وفداحة نتائجه حتى قبل إنجازه، ووضوح وتطابق تصنيف عناصر المشهد في الحالتين يدفعنا لإجراء المقاربة لاستخلاص العبر، فجدية المرحلة لا تتيح لنا رفاهية إغماض أعيننا عن التجارب المماثلة والبدء من جديد في كل مرة.
لا شك أن أبرز نقاط التشابه بين الحراكين هي المحدودية والانحسار ضمن شريحة ضيقة، فأخطر ما في التوجه الحالي للحراك الفلسطيني وخاصة داخل الخط الأخضر، هو أن العنصر الشبابي المتحمس المندفع هو الفاعل الوحيد في الشارع في مواجهة آلة القمع الإسرائيلية، ولن يمر وقت طويل حتى يضطر هذا الخط لمواجهة معركة استنزاف جدلية مع العنصر الرابع المكون للمشهد والذي سيحاول تثبيط الشباب وتحميلهم مسؤولية كل النتائج السلبية التي قد تترتب على الحراك.
وكما في المثال السوري، فإن أعظم مكامن الخطورة، في ظل غياب الدعم المؤسسي للانتفاضة الشعبية، أن يتم استغلال الاندفاع الجارف لدى الشباب لإبعاد الحراك خارج منطقة قوته ومساحة تمكنه من الدفاع عن نفسه واستمراره. فيكفي دس سلاح واحد في مظاهرة واحدة، وإطلاق النار في الهواء حتى يرد “جيش الدفاع” بنار حي ويوقع شهداء بنفس الحجة التي ادعاها سلفه الصالح في سوريا. وبعدها سيحمل العشرات أسلحة للانتقام لرفاقهم ويدخل الحراك في دوامة من العنف يكون فيها هو الطرف الأضعف بدون شك. ولا يجب أن يفهم من هذا أن على الشباب الثائر الآن في الداخل الفلسطيني أن يتراجع عن أي من فعالياته على الأرض. إنما يتوجب عليه شدة الحرص على مواصلة مراجعة نشاطاته وعدم التطوع لتغطية أي دور مسلح أو سياسي متقدم. وحتى لا تذهب جهود وتضحيات الشباب المنتفض هباءً فإن على القوى السياسية وفصائل المقاومة أن تردف هذا الحراك بتصعيد فعال وفق استراتيجية جادة لا تدع الحراك الشبابي يتيماً في الشارع.
بعبارة أوضح، فإن الحل لا يكمن في تراجع الشباب عن حراكهم. بل في أن يقف الجميع أمام مسؤولياتهم ويتوقف المتقاعسون والمثبطون على المستوى الشعبي عن الانتظار إلى الأبد. وأقصى ما قد يكون على الشباب فعله اليوم إيجاد صيغة لقيادة الحراك الجماهيري تضمن الموازنة بين انضباطه من جهة ومرونة اتخاذ القرار والتحرك من جهة أخرى لضرورة الحذر من الاختراق السّهل جداً في ظل اللامركزية والعفوية المطلقة الحالية.