أسئلة كثيرة تطرحها ثورات الربيع العربي حول جدوى التحالفات المستقبلية ومدى صيانة تلك التحالفات للسيادة الوطنية ومصالح الشعوب الثائرة. وعلى التوازي تسعفنا الثورات المباركة بإجابات ناجعة تثبت مدى وعي الشعوب التي عانت الكثير في العقود الماضية لتستخلص أخيراً من الدروس والعبر ما يحولها من بوابات خلفية أو خادم لمصالح الحلفاء الكبار إلى لاعب أساسي محدد، معتد بإمكانياته ومستثمر حقيقي لثرواته من جهة، ورافض لأي سياسة استبدادية أو ممارسات دكتاتورية من الممثلين الجدد من جهة أخرى.
في حين ما زالت قلة من معادي ثورات الربيع العربي –ما نجح منها وما زال منها مستمراً- يخرجون علينا بين الفينة والأخرى بملاحظات وتعليقات يسلطون الضوء من خلالها على بعض الأخطاء أو السقطات التي يقع بها الممسكون بزمام البلاد المحررة حيناً وقيادات أو ممثلي الثورات الجارية حيناً آخر. فمن كانوا يتهمون الثوار بالأمس بموالاة الغرب وإسرائيل ويصفونهم بربائب فرنسا وأمريكا أصبحوا لا يجدون ما يعلقون عليه فشلهم اليوم إلا أمثلة من حالات حظر التجول المعدودة التي أعلنت في تونس ما بعد الثورةـ تونس التي انتقلت إلى من الاستبداد إلى الديمقراطية بنجاح شهد له العالم، متناسين حالات حظر الحياة التي عانتها تونس طوال فترة حكم ابن علي حتى أصبح الطلاب التونسيون المبتعثون إلى أوروبا لا يجرؤون على التكلم عن “جلالة السلطان” وشرطته مع أنفسهم ناهيك عن تجنبهم خوض نقاشات حول الموضوعات المحرمة مع أي كان. وفي ليبيا تفجرت إنسانية أولئك عند مقتل القذافي بما وصفوه “طريقة وحشية”. وأنا لا أدافع هنا بطبيعة الحال عن قتل القذافي في ذلك الموقف، فكم تمنيت أن يمثل للمحاكمة ليبوح بكل خياناته وعلاقاته المشبوهة القذرة، ولكنني أتساءل أين كانت تلك الضمائر عندما كان القذافي يقتل الآلاف من شعبه بالطائرات المقاتلة ومضادات الطائرات فيحيل الأجساد أشلاء ممزقة لا يُعرف لها اسم أو هوية. وقد رأينا جميعاً كيف تربصت تلك الفئة بالثوار الليبيين بعد إسقاط النظام البائد حتى نالوا صيدهم الثمين عندما اندلعت بعض المواجهات المسلحة المؤسفة في طرابلس، ملخصين بذلك كل إنجازات الثورة ومتجاهلين اجتيازها لتحدي المصالحة الوطنية بسلاسة أبهرت الكثير من المتخوفين من الانتشار الهائل للسلاح في أوساط مجتمع ليبيا القبلي.
وفي ذات المقام تطول القائمة في مصر واليمن وسوريا بطبيعة الحال، ففي الأخيرة على وجه التحديد حارب مناصروا النظام رئيس المجلس الانتقالي السوري الدكتور برهان غليون عندما صرح بأن سوريا الغد لن يكون لها علاقات مميزة مع إيران وروسيا وحزب الله وكل من يساهم في استمرار عمليات القتل وملاحقة المعارضين. وهو تصريح وإن اتفقنا إلى حد ما على عدم جدارة غليون بالإدلاء به من حيث هو قرار سياسي من اختصاص البرلمان المنتخب الذي يحدد السياسة العامة للدولة إضافة إلى عدم تمتع غليون بأي صفة سياسية اعتبارية مخولة شعبياً لإقرار شيء من هذا القيبل، إلا أن ذلك يتفق منطقياً مع مصلحة سوريا وشعبها في مستقبلهم القريب. فكيف يمكن لقاتل أن يساهم في بناء مستقبل ضحيته؟ وهل تبرر “الممانعة و دعم المقاومة” قتلي بأي حال من الأحوال؟ ثم إن كيف لقاتلي أن يقنعني بأنه يحارب عدوي من خلال ذبحي؟
يتضح تماماً من خلال ما تشهده الساحة العربية مؤخراً أن زمن الأصنام قد ولى إلى غير رجعة. وأن الحليف الذي كان يتحكم بأمر البلاد أكثر من حاكمها المستبد لن يكون له في المستقبل إلا ما يضمن العائد المجزي للمالك الحقيقي للثروة؛ الشعب. فابتداءً بتونس، توازت الثورة على نظام ابن علي بغضب عارم على فرنسا واتهام شعبي لها بدعم النظام ومحاربة الثورة مما أدى إلى إحراجها دولياً في سابقة هي الأولى تضغط فيها دولة إفريقية تقع على الساحل الجنوبي للمتوسط على دولة أوربية من وزن فرنسا التي كانت ومن المحتمل أن تستمر كأهم الدول الغربية في ميزان التعاون والتبادل الاقتصادي مع بلدان المغرب العربي. أضف إلى ذلك الاتهامات العديدة التي وجهها الشارع المصري للبيت الأبيض الذي وجد نفسه في موقف لا يقل إحراجاً عن موقف فرنسا إزاء الثورة التونسية، ما اضطر البيت الأبيض في نهاية المطاف إلى دعوة مبارك إلى التنحي عن السلطة فوراً بالرغم من كل الخدمات التي كان مبارك يقدمها للغرب ابتداءً بحماية حدود إسرائيل وليس انتهاءً بتحويل مصر من لاعب أساسي على الساحة السياسية في الشرق الأوسط إلى مجرد بلد يقع على هامش التاريخ. كما لا يخفى على عاقل ومتابع الاتهامات التي ما فتئ الثوار الليبيون يكيلونها صبح مساء إلى قيادات الناتو -التي استنجدوا هم بها بالأصل- فيما يتعلق برغبة الأخير في إطالة أمد المواجهة العسكرية وعدم الجدية في الإطاحة بنظام القذافي والذهاب أبعد من ذلك إلى حد اتهام الغرب بِنية رفع فاتورة الحرب لضمان استثمارات ومكاسب أكبر في ليبيا المستقبل.
ولا شك أن أعظم وأجرأ المواقف التي اتخذت تجاه الحلفاء في إطار الربيع العربي كانت تلك التي اتخذها الثوار السوريون الذين قضوا عمرهم في دعم الحركات المقاومة واستضافة ضحايا الإرهاب الإسرائيلي المهجرين من لبنان وفلسطين. فقد أدركوا أن الرصاصة التي يقتطع ثمنها من خبزهم لن تطلق يوماً على عدوهم، وأثبتوا أنهم خير من يعلم معنى المقاومة وأعلنوها صراحةً أن لا حصانة للممانعين من أعداء أمريكا وإسرائيل إن قرر أولئك “الممانعون” محاربة المطالبين بالحرية قبل محاربة عدوهم الكلاسيكي، فكيف تستقيم مقاومة العدو بقتل الشارع المقاوم؟
أقلّب كثيراً بعد كل ذلك في تاريخ تونس ابن علي، وليبيا القذافي، ومصر مبارك، ويمن صالح، وسوريا الأسد، بحثاً عن مرة يتيمة تجرأ فيها ابن علي أن يقول “لا” لفرنسا، أو عن “لا” قذافية لإيطاليا، أو “لا” أشهرها مبارك أو صالح في وجه أمريكا، وحتماً لم أجد أي “لا” أسدية في وجه روسيا أو إيران حينما تعارضت مصالح أولئك الحلفاء (أو المستعمرون الجدد إن صح التعبير) مع مصالح الشعوب.
إن الثوار العرب اليوم لا يكتفون بالانتفاض على مستبديهم، ولا يتوقفون عند إعادة تعريف أحلافهم بما يخدم مصالحهم، بل يذهبون أبعد من ذلك ليرسموا بأيديهم مستقبلهم الذي يرضون ، فنراهم يضبطون إيقاع الحراك السياسي المرافق لحراكهم في الشارع، مصممين في مصر على المضي قدماً حتى نهاية الطريق على الرغم من كل المكاسب التي تحققت بالفعل. كما ما زالت شوارع وساحات اليمن تكتظ بملايين الثوار المطالبين بمحاكمة صالح ورفض الحصانة التي منحته إياها المبادرة الخليجية التي نجحت إلى حد ما بنتحيته عن منصبه في رئاسة الجمهورية. وفي سوريا يتابع الثوار عن كثب تصريحات وفعاليات التيارات السياسية عامة والمجلس الوطني (الممثل لأغلب أطياف المعارضة) خاصة للحفاظ على توجيه بوصلتهم بما يتوافق مع اتجاه ونبض والشارع، غير متوانين عن النيل بشدة من كل من يحيد عن مطالب الثائرين. ولعل أطرف ما رأينا في هذا السياق المظاهرة التي رفع فيها “الحماصنة” البطاقات الصفراء لبرهان غليون بعد ما ثار من ضجيج إعلامي حول الوثيقة التي وقعها الأخير مع هيئة التنسيق، في إشارة إلى استنفاذ غليون فرصة ثمينة قد يكلف تكرار مثيلها تلقيه بطاقة حمراء يخرج بموجبها من المشهد السياسي المعارض الحائز على دعم الشارع.
إن السطور التي يخطها الثوار العرب اليوم في تاريخنا تضعنا بلا شك على باب مرحلة جديدة ينصب فيها الشعب نفسه مجدداً سيداً لنفسه ومقرراً لمصيره، الأمر الذي سيفرض واقعاً جديداً في لعبة السياسة الدولية، في منطقة لا يسع العالم أن يتجاهل أهميتها، والتي تشارك فيها الشعوب العربية من الآن فصاعداً كمحدد وحيد لتحالفاتها التي تخدم مصالحها أولاً لتكون شعوب المنطقة عامةً ودول جوار فلسطين في سوريا ومصر خاصةً لاعباً أساسياً في رسم مستقبل المنطقة بالصورة التي نريدها جميعاً وفيها فلسطين جزءٌ أصيلٌ على خارطة شرق المتوسط.