مقدمة
من المعلوم أن زيارة اللاجئين الفلسطينيين على تنوعهم -سوريين، لبنانيين، أردنيين- لمصر كانت من أشباه المستحيلات أيام مبارك. إلا أن هذه الصورة بدأت تتغير بعد الثورة المصرية فبدأنا نرى الكثير من الفلسطينيين يترددون على مصر بكثرة للقاء أهلهم القادمين من خارج مصر أو لزيارة أصدقاء أو لمجرد رؤية ذلك البلد الذي لطالما تاقوا لرؤيته وحرمهم ذلك النظام السابق. أضف إلى ذلك مئات الفلسطينيين، إن لم نقل الآلاف، الذين عبروا إلى ليبيا عن طريق مصر بحثاً عن لقمة عيش. كل ذلك كان يحدث دون أن نسمع أن أحداً من أولئك منع من الدخول أو العبور لأي سبب كان.
وبالفعل، كنت أنا أحد أولئك الفلسطينيين اللاجئين الذين زاروا مصر أوائل شهر أيلول (سبتمبر) من هذا العام أي قبل حوالي شهر من تاريخ كتابة هذا المقال. وجدير بالذكر أنه قد تمت معاملتي على أني لاجئ فلسطيني وليس كسوري. ففي بطاقة الدخول المرفقة مع جواز السفر (الوثيقة بالأحرى) كنت قد كتبت في حقل الجنسية: سوري لتلافي أي سوء فهم ناتج عن إدراج الجنسية كـ: فلسطيني وتقديم جواز سفر باسم (الجمهورية العربية السورية) فلطالما كانت هذه المعلومة مكان جدل في كافة معاملاتنا حيث أننا في الحقيقة لسنا فلسطينيين ولا سوريين. إلا أن موظفة الجوازات رأت أن تكتب كامل الشرح المتعلق بالجنسية وشطبت “سوري” واستبدلتها بـ “فلسطيني-سوري وثيقة”.
أما عند الخروج، فقد قدمت جواز سفري مرفقاً ببطاقة المغادرة وكنت قد ملأت حقل الجنسية فيها بـ فلسطيني سوري. فأضافت موظفة الجوازات إلى ذلك كلمة (وثيقة). وختمت لي الجواز وغادرت دون أي استجواب يذكر. وفيما يلي أختام الدخول والخروج التي حصلت عليها.

ختمي الدخول والخروج إلى مصر في زيارة سابقة
كانت هذه المقدمة ضرورية للقارئ لفهم مجريات احتجازي وترحيلي من مطار القاهرة في زيارة لاحقة. وإليكم التفاصيل فيما يلي
الوصول
هبطت الطائرة في مطار القاهرة الدولي حوالي الساعة 12:20 بعد ظهر يوم التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري واتجهت بصحبة ابن عم لي إلى نافذة مراقبة الجوازات حيث أخذت جوازاتنا للتدقيق وانتظرنا ريثما يصدر القرار. وهو ما لم يحصل معي في المرة السابقة.
على أية حال، نودي على أسمائنا ودعينا إلى مكتب الأمن الوطني ضمن قسم الحجز ورافقنا أحد الموظفين الذي همس لي: “إحنا عاوزين نسهل أموركو وإن شاء الله الموضوع بسيط. بس إنت زبطنا و احنا نزبطك.”
فهمت ما وراء الرجل وأنه يشير إلى أنني إن رشوتهم فأموري ستسير بسلاسة. ولكنني كنت مفرطاً بالتفاؤل وظننت أن مصر اليوم غير مصر البارحة، فلم أعر الرجل أي اهتمام.
التحقيق

رسم تقريبي لقسم التحقيق والحجز في مطارة القاهرة الدولي
بدأ التحقيق مع ابن عمي أولاً لمدة عشر دقائق أو ربع ساعة ثم نوديت أنا لتنهال علي الأسئلة حول غرضي من زيارة مصر ومدة إقامتي ومكانها وكيفية دخولي في المرة الأولى.
كانت إجاباتي كلها من خلال ما قدمت من أوراق لتذكرة العودة خاصتي والحجز الفندقي. ثم تناول النقاش موضع عملي وإقامتي في دبي وطبيعة عملي وموضوع إقامتي في أستراليا بطريقة مستفزة حاول المحقق من خلالها أن يظهر أنه “قد توصل إلى فك شيفرة المعسكرات المتآمرة التي تقف ورائي”.
عملت على الحفاظ على هدوء أعصابي قدر المستطاع فاستفزه ذلك وأخذ يهددني بأنه سيبحث في دخولي الأول “غير القانوني برأيه” إلى مصر.فكان الحوار التالي:
المحقق: إن دخولك في المرة الأولى مخالف للقانون.
أنا: كيف يكون دخولي مخالفاً للقانون وقد دخلت وغادرت من المطار وعلى جواز سفري ختمان نظاميان؟
المحقق: هذا خطأ وقع فيه موظفونا وسنحاسب من أخطأ منهم، ولكن هذا لا يمنع في الحقيقة أنك دخلت مخالفاً للقانون. قد يكون الخطأ الذي وقعنا فيه أننا عاملناك كسوري غير منتبهين إلى أن ما تحمله هو وثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين وليس جواز سفر.
أنا: اعذرني ولكن الوصف غير دقيق. يمكن أن تعود إلى سجلاتكم لترى أن بطاقتي الدخول والخروج في المرة الماضية كتب عليهما بخط يد موظفيكم كلمة (وثيقة). أي أنهما انتبها لها ولم يعاملاني كسوري.
ضابط الأمن: كل هذا لا ينفي حقيقة أنك دخلت مخالفاً للقانون
عند هذه النقطة لم يعد للجدال أي نفع ولم يكن من المفيد أن أعدد عشرات القصص عن فلسطينيين – سوريين دخلوا وخرجوا بكل سلاسة ودون أي منغصات كتلك التي كانت تحدث معي.
بعد خمس دقائق من خروجي من مكتب الأمن الوطني جاء القرار بترحيلي والسماح لابن عمي بدخول مصر مع العلم أنه طالب و ليس لديه أي حجز فندقي ولا حتى تذكرة عودة علماً أنه أفاد في التحقيق أنه قادم معي وليس لديه من يستقبله في مصر.
الخلاصة أن ضابط الأمن رأى في ابن عمي (الطالب) شخصاً لا يمكن الاستفادة منه في شيء فسمح بخروجه بينما احتفظ بصيده الثمين الذي أتى بكل ما يلزم لرحلة سائح والذي يعمل مديراً للمبيعات في شركة في دبي، الأمر الذي أوحى له بأني الشخص المناسب لأدفع دية خروجي التي يفرضها هو.
غادر ابن عمي بسلام وبدأ الشرطي بملء أوراق ترحيلي قاصداً أن يستغرق كل وقته في ذلك لكي يمنحني الفرصة لأدخل أترجى ضابط الأمن ليخرجني فأدفع للجميع ما يريدونه.أكثر من ساعة ونصف قضيتها دون أن يخبروني متى ستكون الرحلة القادمة التي من المفترض أن أستقلها عائداً إلى دبي. حتى فقدوا الأمل من مراجعتي في النهاية وأمروني بتسليم متعلقاتي والدخول إلى مهاجع الحجز.
الكاميرا والهاتف
طلبوا مني تسليم أجهزتي الخلوية فأخبرتهم بأن لدي حقيبة الكاميرا أيضاً وهي كاميرا احترافية مع بعض العدسات، فكان الحوار التالي:
الشرطي: أين أجهزتك الخلوية؟
أنا: أريد أن أجري بعض الاتصالات أولاً حتى أخبر أصدقائي بمكاني، ولكنني أريد شحن رصيدي حتى أقوم بذلك. فهل يمكن للسيدة التي تحضر الطلبات للمحتجزين أن تحضر لي بطاقة شحن؟
الشرطي: بطاقة شحن؟؟؟ أنت محتجز. انسى الموضوع
أنا: ولكنني لست مجرماً ومن حقي أن استخدم هاتفي حتى ولو كنت سجيناً بعرفكم
الشرطي: أرجوك لا تضيع وقتنا
أنا: لا حول ولا قوة إلا بالله. حسناً إذا. هذه أجهزتي الخلوية وهذه كاميرتي، مشيراً إلى الحقيبة الكبيرة على ظهري
الشرطي: هذه كلها كاميرا؟؟؟
أنا: نعم. أنا هاوي تصوير
الشرطي: طب افتح افتح
أنا: تفضل
الشرطي: وما هذا كله؟؟؟
أنا: الكاميرا وبعض العدسات
الشرطي: يعني إيه عدسات؟
أنا: عدسات للتصوير. كل عدسة لها اختصاصها
الشرطي: يعني العدسة دي بتصور لحالها بدون الكاميرا؟
أنا: أكيد لأ حضرتك
الشرطي بنظرة خبيثة تنم عن غباء مفرط مطلي ببعض الذكاء: إنت جاي تصور في التحرير؟؟؟ دلوقتي عرفنا الحقيقة
نادى الشرطي هنا على ضابط الأمن ليرى “المصيبة” التي أحملها
ضابط الأمن: اي ده اي ده؟؟؟
فأعدت شرح قصة الكاميرا وعدساتها
ضابط الأمن: إنت بتصور إيه يعني؟
أنا: مناظر طبيعية ومعمار وما إلى ذلك
ضابط الأمن: أيوه عارف بس جاي تصور إيه هنا؟
أنا: أتيت أصور بلدكم الجميل
ضابط الأمن مع نظرة أخت تلك التي وجهها إلي الشرطي قبل لحظات: أيوه أيوه.
أنا: إن أردت يمكنني أن أريك عينات من تصويري
ضابط الأمن: لا لا. أنا ما اعرفش في الحاجات دي
بدأ بعدها الضابط بتفحص محتويات الحقيبة التي وضعت فيها كل ما يلزم لإقامة يومين من ملابس وعطر وشواحن وما إلى ذلك.
ضابط الأمن: إي ده السوائل ده؟؟؟؟؟
وكأن عبوة ناسفة على وشك أن تتفجر
أنا: هذه عطور (حرصت أن آخذ عبوات صغيرة جداً حتى أتمكن من اصحابها إلى الطائرة)
ضابط الأمن: عطور، ها؟؟؟
هنا أحب الشرطي أن يطربنا بمداخلته فقال لضابط الأمن: والله إني مسرور منكم اليوم. فقد قبضتم على هذه الأشياء
ضابط الأمن بانتشاء فاتحي روما: نعم
وهنا كانت حقيبة الكاميرا بكل محتوياتها فرصة جديدة لابتزازي قبل دخولي مهجع الحجز.
وقبل أن أغادر، اعطيتهم ستاند الكاميرا فسألوني: وما هذا؟
أنا: ستاند للكاميرا.
الشرطي والضابط معاً: وستاند كمان؟؟؟!!!
الحجز
أخذوا الكاميرا وأجهزتي الخلوية وسمحوا لي باصطحاب حقيبة العدسات مع تهديد بتحطيم كل محتوياتها إن رؤوا شيئاً منها يخرج من الحقيبة داخل الحجز.
دخلت إلى غرفة الحجز التي لا تصلح بالطبع لإقامة البشر، وفقط حينها أخبروني أن أول رحلة متاحة إلى دبي قد تكون في اليوم التالي، ويمكنني أن أغادر عليها “إن توفر عليها أي مقاعد”. ما يعني أنني كنت سأبقى في الحجز يوماً على أقل تقدير إلى أن تتوفر مقاعد في رحلة قادمة. وببساطة قد لا تتوفر هذه الرحلة حتى أدفع لهم الرشوة التي يريدون.
حرص ضابط الأمن أن يريني وجهه بين الحين والآخر حتى يدفعني لأطلب منه أن أطلب منه إخراجي.
في النهاية طلبت مقابلته ففعل:
أنا: في حل يا حضرة الضابط ولا لأ؟
ضابط الأمن بمنتهى الخبث: إنت قلي بس عايز تصور إيه وأنا هساعدك
أنا: ولكنك رفضت إدخالي قبل أن تعلم بقصة الكاميرا من أساسها. فما علاقة هذا بذاك؟
ضابط الأمن: طب استنى استنى.
بعدها بخمس دقائق طلب مني الشرطي أن أتوجه مجدداً إلى غرفة الاحتجاز.
عدت لبعض الوقت ثم تحدثت إلى الشرطي بمحاذاة نافذة الاحتجاز
أنا: إن كان لا بد من ترحيلي إن كان الأمل معدوماً بدخولي فاسمحو لي بأن بأن أحجز تذكرة عودة على حسابي اليوم فلا أريد أن أقضي اليوم هنا. خلص شفناكو بخير
الشرطي: هتحجز على حسابك؟
أنا: نعم، أريد أن أرحل
الشرطي: يعني أهو!!! معاك فلوس!!!
أنا: نعم طبعا معي فلوس (لا حول ولاقوة إلا بالله)
البحث عن رحلة
اضطررت في النهاية لدفع مبلغ من المال (المبلغ سخيف نوعاً ما، ويوحي بمدى رخص كل تلك العصابة) حتى أستطيع أن أخرج بصحبة أحد أفراد الشرطة لنبحث عن رحلة إلى الإمارات في نفس اليوم.
صاحبني الشرطي إلى مكاتب الطيران لنجد رحلة فحجزت واحدة تطير إلى أبوظبي مساء اليوم نفسه. دفعت ثمن البطاقة ولكن الشرطي احتفظ بها وبجواز سفري وقال لي أنه سيعيدهما لي حال أن ننتهي من إجراءات الترحيل.
شعرت للحظة بالأسى على هذا الشرطي الفقير الذي اضطر لمرافقتي كل ذلك الوقت لنجد رحلة مناسبة. فسألته عن اسمه لأشعره بشيء من الارتياح له. خطر لي وأنا أسأله أنه سيعطيني اسماً وهمياً خشية أن أقدم شكوى ضده وضد زملاءه. ولكنه وقبل أن يرتد إليه طرفه أجاب: حسين. فلم يترك لي مجالاً للشك بأنه صادق.
عند عودتي إلى قسم الحجز طلبت جواز سفري فكان جواب الشرطي: “أدخل جوا أحسن لسا احنا فيها ومش هنخرجك”
أدخلوني بعد ذلك مجدداً إلى الحجز و إذا أتفاجأ بأن كل من القسم ينادون ذلك الشرطي الذي ظننته (حسين المسكين) بـ (علي)!!! أي احتراف هذا للنصب والاحتيال؟!
بقيت في الحجز لساعتين أو أكثر حتى آخر لحظات قبل مغادرة الطائرة عند الساعة الخامسة مساءً حين أوعزوا لي بمرافقة علي (الذي كنت أظنه حسين) إلى باب الباص الذي يأخذنا إلى الطائرة. وحين طلبت جواز سفري رفضوا تسليمه لي حتى أدفع رشوة جديدة. فما كان مني إلا أن غافلت ذلك الـ علي|حسين وأخذت له بضع صور حتى أوثق ما حدث. لسوء الحظ لم يكن الأمر سهلاً لألتقط صورة واضحة ولكني استصلحت بعضها كما يلي. وأرى من الضرورة بمكان نشر صورة الشرطي حتى يتوفر مرجع لملاحقة كافة المناوبين خلال ذلك اليوم.


خاتمة
لعل أشد ما حز في نفسي في النهاية هو أني خضعت لرغبة تلك العصابة واضطررت لدفع الرشوة حتى أحمي نفسي. فلولا ذلك لكان من السهل عليهم ان يرتبوا لي تهمة بالاعتداء على أحدهم أو شتم مصر والإساءة لها، ولن يحتاجوا حينها إلى البحث عن شهود، فكل من كان هناك عصابة واحدة.
لسوء الحظ حدث كل ذلك في بلد خاض ثورة “ناجحة” وقدم شهداء ورغم كل ذلك ما زالت كل تلك الممارسات رائجة باسم الأمن.
إمعان في إذلال الناس وحرمان الدولة من عائد السياحة لسبب بسيط هو أن عصابة صغيرة احتكرت سيادة المطار وقررت أن شخصاً ما لن ينال حقه إلا بعد أن يدفع أتاوة.
ولا يعني هذا التقرير بالطبع أن لدي أي شيء ضد مصر كدولة أو ضد الشعب المصري الكريم، فهناك في الحجز كان يوجد عدد من المصريين، منهم رجل أعمال محتجز على خلفية حكم غيابي يعود إلى الثمانينيات من القرن الماضي وأخبرني بأنه يحتجز عند كل دخول إلى مصر رغم سقوط القضية منذ زمن.
من المعيب أن يحتكر الفاسدون في مصر قرار الدولة بعد مضي قرابة العامين على نجاح الثورة المصرية وما يزال هناك من يقول أعطوا الرئيس و حكومته وقتاً فالإصلاح لا يأتي دفعة واحدة. ما استعرضته هنا فساد في مطار العاصمة وليس سرقة نعجة في أقاصي الصعيد. إن كانت واجهة البلد ليست أولية لدى الحاكمين اليوم في مصر فلا خير فيهم ولا بأولوياتهم.
وختاماً، أتمنى أن يأتي اليوم الذي أرى فيه الفلسطينيين يعاملون في مصر معاملة مواطني شمعون بيريس، صديق محمد مرسي العزيز*
مصر بدها حرية.
————————————————-
*كما نص كتاب تعيينه للسفير المصري الجديد لدى إسرائيل
Like this:
Like Loading...